عقب اللٌيل

الشهيد بوزيدي محمد ولد الحسن، ولد عام 1918، بدوّار تمكسالت. كانت فيما مضى ، أي منذ عشرات السنين ، المستقر الرئيسي للأسر البوزيدية في ولاية تلمسان. وهي تقع جنوب قريتي : صبرة وبوحلو. موقعها إذن محاذيا للمنطقة الجبلية والأراضي الغابية التي تمتد إلى مرتفعات موطاس. فهي دشرة منعزلة لا يكاد سكانها يتصلون بالجهات الأخرى إلا عبر مسافات معينة. وغني عن البيان؛ بأنّ هذه الدشرة لم يعد لها من وجود؛ فقد قصفها الجيش الاستعماري بمدفعية الدبابات في أواخر عام 1955، بعدما اعتبرها مصدرا وموطنا “للخارجين عن القانون”. ثم عاود قصفها مرة أخرى في صيف عام 1956. في هذه المرة، أمر سكانها بإخلاء المكان وهم حينئذ سوى من النساء والأطفال، حيث كان رجالها إما في صفوف جيش التحرير، أو في السجون والمعتقلات، وعلى إثر ذلك غادر الجميع بيوتهم، وهم لا يعرفون إلى أين يقصدون.1

توفي والداه في فترة زمنية متقاربة ، 1944 و1945، وهي الفترة التي تعرف عند سكان الجهة “بعام الجوع”. حين ذلك ، تولى وفي وقت مبكر مسؤولية إعالة أسرته الكبيرة ورعايتها، وذلك من منطلق واقع الحال، حيث كان هو الأخ الأكبر المتزوج. فضم إليه إخوانه وأخواته إلى جانب أسرته الصغيرة المتكونة من ستة أطفال. ورغم حالة الفقر المدقع والعسر في المعيشة في تلك الأثناء، فقد تولى هذا الرجل الريفي هذه المسؤولية الأسرية ولم يتخل عنها قط. حتى إذا ما جاء وقت اندلاع الثّورة التحريرية عام 1954، وعمّت أحداثها أرجاء الوطن فما لبث أن وجد نفسه في خضم هذه الأحداث، من المحركين الأساسيين ومن الأسماء البارزة في محيط الثّورة بمنطقته التي كان يعيش في أرجائها. فكان بحق الشخص المفعم بالحيوية، والذي يقود الجميع، إخوانه ورجال الدشرة واحدا واحدا2، وجميعهم في سن متقاربة، قادهم وهو يتصدر الصفوف الأولى نحو طريق الجهاد والتضحية ثم الاستشهاد. حيث لم يبق منهم على قيد الحياة في وقت الحرية والاستقلال إلا من كان طفلا، أو من كان له مصيرا آخر، فقبض عليه في السجون والمعتقلات، وهؤلاء قليلون وقليلون جدا.

أسرة الشهيد “عقب اللّيل
دشرة تمكسالت ، مسقط رأس عقب اللّيل

ارتبط نشاط هذا الرجل منذ الأول بالعمل في الأرض، رغم مساحتها المحدودة ورغم ضعف مردودها بحكم طبيعتها الجبلية. وأمام الحالة المعيشية التي كانت متردية بصورة عامة، فكثيرا ما كان يلجأ إلى العمل بالأجرة اليومية (بحيث لا يضمن إذا كان سيعمل في اليوم الموالي أم لا)، وذلك في مزارع المعمرين المتواجدة بكثرة في المنطقة. وقد استمر الحال بهذه الصورة. عدم استقرار في العمل أحيانا، وعدم توفره بالمرة أحيانا أخرى، ثم تعسّر الأوضاع من يوم لآخر، وذلك حسب الإمكانيات المادية التي كانت تكاد أن تكون منعدمة، إلى حين سنحت له الفرصة للالتحاق بالعمل بمؤسسة الأشغال العامة “سكومة”3، وكان ذلك عام 1947، وهي نفس الفترة التي التحق فيها بصفوف “حزب الشعب الجزائري”. فتحول نتيجة لذلك وبشكل فعال إلى مناضل نشط، تكتسيه حماسة وطنية متأججة. فانشغل على الفور وبعمق بهموم الحركة الوطنية وقضاياها، فأضحى كغيره من الوطنيين ضائقا بسيطرة وهيمنة المعمرين، ناهيك عن تسلط الإدارة الاستعمارية ومحاصرتها واحتقارها للجزائريين. فكان أن تلخصت آماله كلها ، كغيره من الوطنيين ، في التأهب والاستعداد لمقاومة الاستعمار وطرده من البلاد.

في هذه الظروف، تعددت علاقاته وتنوعت اتصالاته مع الكثيرين من رجال الحركة الوطنية، خاصة مع المناضلين في صفوف “حزب الشعب الجزائري”، أو في صفوف “جمعية العلماء المسلمين”. وقد كان من ضمن هؤلاء رجال وطنيون مخلصون، سواء في الجهة التي كان يعيش فيها، أو عبر المناطق الحدودية الغربية. إن هذا التنوع في العلاقات الاجتماعية الذي تميز بها هذا الرجل، بالإضافة إلى اتصاله ببعض المناضلين الناشطين في الحركة الوطنية، ثم تميّزه بشخصية قوية ولبقة محبوبة. كان كل ذلك من الأسباب التي عجلت بأن يتبوّأ مكانة مرموقة في النشاط والنضال ضمن صفوف الحركة الوطنية، خلال السنوات التي سبقت انطلاق الثّورة التحريرية. وقد تجلى هذا الأمر، خاصة بعدما أسندت له مسؤولية مجموعة من الخلايا في “حزب الشعب الجزائري”. بداية في نطاق قرية صبرة وبعد ذلك في مدينة تلمسان. هذه المدينة التي سرعان ما أضحت مقرا أساسيا لنشاطاته ومجالا حيويا لعلاقاته وتحركاته النضالية خاصة بعدما توطدت اتصالاته بالعديد من الوطنيين من أسرة زعيم الحركة الوطنية مصالي الحاج.

ويمكن القول بعد كل ذلك؛ بأن هذا الرجل قد بلغ أوجه في النضال والعمل الوطني بعدما تم له الانخراط عام 1948 بطريقة سرية بالمنظمة الخاصة4، وهي الجناح العسكري في تنظيم “حزب الشعب الجزائري”، الذي كان يجري من خلاله الإعداد الفعلي لانطلاق المعركة المسلحة، ضد الوجود الاستعماري. ومن المعلوم؛ بأن أفراد هذا التنظيم السري كانوا محاطين بعناية خاصة لا يكاد يعرف فيه العضو الواحد الأعضاء الآخرين. فضلا عن عمليات التدريب والإعداد، وتحديد مراكز تحزين السلاح والمؤونة، التي حتما كانت تجري عبر توجيهات بالغة السرية. لا أحد يعلم أكثر مما ينبغي، ولا أحد يدري من أين مصدرها ولا من هم القيمون على ذلك. ورغم هذا، فلا شك أن “عقب اللّيل” كان متصلا بطريقة سرية ببعض الأعضاء المنضوين في هذه المنظمة الخاصة، وذلك في الجهة الغربية الحدودية على أقل تقدير ، من أمثال المقدم بوزيان ، وكديري حسين، والقاضي عكاشة، وهم من رواد الثّوريّة المعروفين في المنطقة. وربما بحكم اتصالاته هذه، وبحكم تحركاته السرية ضمن نشاطات هذه المنظمة تعرض لاعتقالات من طرف الشرطة الاستعمارية إلا أنه في كل مرة كان يطلق سراحه، دون أن تقدم ضده أي تهمة تذكر.

ومن المعلوم؛ أن مثل هذه الاعتقالات البوليسية التي كانت الإدارة الاستعمارية تحرص على القيام بها ضد الوطنيين الناشطين ، إنما كانت من أجل مراقبة وتتبع مختلف نشاطاتهم النضالية، والتي كانت تجري على نطاق واسع ضمن تنظيمات وخلايا “حزب الشعب الجزائري”.

ومن المؤكد؛ أن شهرة هذا الرجل المناضل قد تبلورت في أول الأمر في نطاق قرية صبرة، التي كان اسمها في عهد الاستعمار”توران”5 وإذ كان يستوطنها في الغالبية العظمى أسر وجماعات المعمرين، فهي في ذات الوقت، لم تكن تخلو من أسر جزائرية. بينما ضواحيها القريبة والبعيدة؛ هي عبارة عن مداشير ودواوير مبعثرة عبر مختلف الجهات. وبقدر ما كانت هذه القرية تتميز بالحركة والنشاط، أثناء سوقها الأسبوعي، الذي ينصب في كل يوم خميس، بقدر ما كانت تكتنفها حالة من الرتابة والهدوء، طيلة الأيام الأخرى من الأسبوع، بحيث انتظمت حياة الناس جميعا بنظام هذا السوق. يلتقون في أجوائه في السراء والضراء، يتبادلون البيع والشراء، ويحصل ما يحصل من علاقات واتصالات، ثم في النهاية يفترق الجميع. إنها تظاهرة تجارية اجتماعية وسياسية كذلك بالنسبة للمناضلين في الحركة الوطنية. تعود وتتكرر مظاهرها في كلّ يوم خميس من الأسبوع. فتجيء صاخبة في كل مرة بالأحداث والمستجدات. سواء ما تعلق منها بحياة الأفراد وأسرهم وقضاياهم العامة والخاصة. أو ما يخص قضايا الحركة الوطنية وأحوال النضال السياسي في صفوف “حزب الشعب الجزائري”، وكذا ما يتعلق بدعاوى الإصلاح الاجتماعي والديني في “جمعية العلماء المسلمين”

في سياق كلّ ذلك، كان عقب اللّيل بمعيّة مناضلين آخرين ينشطون جميعا في نشر التوعية بين الناس. التوعية بمأساة الجزائر المستعمرة، وينبهون إلى النظام الاستعماري التسلطي وإلى هيمنة المعمرين، ويدعون إلى التجنيد والتضامن في صفوف “حزب الشعب الجزائري”. وهو الحزب الذي كان أكثر استقطابا وإقناعا للجزائريين، بحكم توجهاته الواضحة في الوطنية، وعدم تردده في المطالبة بالحرية والدعوة إلى الاستقلال.

أعود وأقول؛ بأنه كثيرا ما كان يجري كلّ ذلك النشاط، تحت غطاء العلاقات التجارية من بيع وشراء، وضمن أنشطة الناس عامة في نطاق السوق. الأمر الذي كان يجعل هذا النشاط السياسي المناهض للوجود للاستعماري مموّها ومغيّبا عن مراقبة البوليس الاستعماري.

هكذا أصبح هذا الرجل الريفي الوطني من الوجوه المعروفة والمتفردة بين عامة الناس. فقد دأب كل من يعرفه أو يلتقي به، خاصة في السوق الأسبوعية بمناداته باسم “الشريف”، تعبيرا وتقديرا لنسبه الشريف ، حيث كان من عادة الناس آنذاك التمييز بين الأسر الشريفة من غيرها ، أو ينادونه أحيانا باسمه محمولا على اسم أبيه “محند لحسن”، بهذه الصورة من النطق. وذلك كطريقة للتمييز بين جميع من يحملون اسم “محمد”، وما أكثرهم في ذلك الوقت. خصوصا في المناطق الريفية والبدوية. وهكذا أيضا، كانت صورة شخصيته في أذهان معارفه وأصدقائه. هي صورة الرجل الصنديد المعتز بنفسه اللّبق في علاقاته مع الجميع. في حديثه جدية وإقناع، في شخصيته قوة حضور وجاذبية وتأثير. ولعل ما اتسمت به حياته من خلال تعامله وعلاقاته مع الناس، من شجاعة وصرامة وحسم، سواء في مواقفه في الشدائد، أو في مواقفه في مقتضيات الأفراح والأحزان، لعل كلّ ذلك هو الذي أصبغ عليه هذه الصورة الشعبية وصقل ذاتيته، بحيث أصبح مهيّئا لكي يحتل تلك المكانة القيادية المتميزة، بعد انطلاق الثّورة التحريرية مباشرة. حتى صار اسمه عنوانا لأسطورة من أساطير الثّورة، وشبحا كثيرا ما أثار الرعب في أوساط الجيش الاستعماري. ومن المعروف عن هذا الرجل بأنه كان فارسا، من ضمن الرجال الفرسان في المنطقة الذين يتسابقون بالخيل في المناسبات. كما كان مدربا على استعمال السلاح حتى قبل انضمامه إلى المنظمة الخاصة6، حيث كان يعد من أمهر الصيادين. فبراعته في دقة التصويب كانت تثير الإعجاب. ولا عجب فقد أصبح لهذه المهارة شأنا في المعارك التي خاضها ضد جيش الاستعمار. وما أكثر الوقائع التي كان فيها رفقاؤه المجاهدون شاهدين على حسن مهارته وشدة قتاله حتى أصبحت لديهم قناعة، بل ومن تحصيل الحاصل، بأن عقب اللّيل إذا ما صوّب بندقيته استحال أن تخرج منها طلقة طائشة، أو تذهب هباء دون أن تصيب الهدف.

إنّ الإشادة بصفات هذا الرجل الثوري قد تظل غير مكتملة الدلالات والمعاني، بدون الإشارة إلى خصال ومواقف رجال آخرين، كانت تربطه بهم علاقات وطيدة ومباشرة، فأثّر الواحد منهم في الآخر، أشدّ التأثير. فبعضهم كان من رجال أسرته ودوّاره من أمثال؛ السي أحمد البوزيدي، والسي بن يحيى البوزيدي، والصايم الصايم، والصايم عبد القادر. وبعضهم الآخر من رجال المنطقة، من أمثال؛ كديري حسين، والمقدم بوزيان، والقاضي عكاشة، وحمداوي المأمون. كل هؤلاء كانوا مفعمين بالروح الوطنية الصادقة. يتربصون بالعدوّ الاستعماري، وينتظرون بفارغ الصبر مجيء اليوم المعلوم، وتنطلق الشرارة الأولى للنهوض في وجه الاستعمار. وهو الشعور العام الذين كان سائدا ويعمّ جميع الوطنيين على مستوى الوطن ومن هؤلاء المخلصين الصادقين، أرى لزاما أن أشير إلى بعضهم بصورة مختصرة على سبيل المثال.

السي أحمد البوزيدي

المجاهد السي أحمد البوزيدي، رئيس القسم السادس 1954-1955

رجل وطني، تكون في علوم الدين بجامعة القيروان بفاس. وحيث أنه يعتبر من أقدم رجال الحركة الوطنية بالجهة، فقد وضعته قيادة الثّورة بالغرب الجزائري فور انطلاق الثّورة التحريرية أول قائد للقسم السادس7. وحين ألقي عليه القبض أواخر عام 1955 من طرف الجيش الاستعماري، تولّى قيادة هذا القسم بعده الشهيد “فراج” المسمى؛ “عبد المؤمن”.8

تولى هذا القائد بعد خروجه من السجن مباشرة، في بداية الاستقلال مسؤولية “جبهة التحرير الوطني” بولاية تلمسان، ولم يمكث في هذا المكان إلاّ بضعة أشهر، حيث قدّم استقالته بعد سوء تفاهم بينه وبين “أعضاء المكتب”، حيث أدى به ذلك إلى اعتزال العمل السياسي بصورة نهائية، لينتقل إلى مدينة بلعباس في جوار جده “سيدي بلعباس البوزيدي”، فزاول منذ ذلك الحين مهنة التعليم إلى أن وافته المنية عام 1974. ومن الضروري أن أوضّح في هذا المقام بأن هذا المجاهد عاش عفيفا طاهرا، فلم يطلب “شهادة العضوية” قط فمات بنيته الثّوريّة الخالصة، في الوقت الذي كان الناس يتهافتون عليها بالصدق تارة، وبالكذب والتزوير تارات أخرى. وإذن لم يتلوث بما تلوّث به المزورون من المجاهدين والزعماء والأبطال (أقصد التلوث بدم الشهداء). فظلت مكانته عالية. وخير دليل على ذلك، فقد حظر جنازته جمع غفير من المجاهدين والمواطنين، جاؤوه من كل مكان، حتى أنّ المجاهد “الحاج بن عله” -والذي كان رهن الإقامة الجبرية بمدينة “عيون الترك”، على إثر الانقلاب العسكري 19 جوان عام 1965 ، اضطر هذا المجاهد القيادي في “جبهة الحرير الوطني” إلى طلب رخصة خاصة لينتقل ويحضر جنازة صديقه في الكفاح بمدينة بلعباس.

الصايم عبد القادر

يدعى “السي عيسى”، نسبه يعود إلى أسرة بوزيدي وهو من الوجوه الوطنية البارزة في صفوف “حزب الشعب الجزائري”. عيّن في مطلع الثّورة التحريرية قائدا للقسم السابع، الذي كان يشتمل على مدينة بلعباس ونواحيها، وبعد استشهاده عام 19599 جاء بعده مجموعة من القادة المجاهدين10. خاض هذا المجاهد غمار عدة معارك ضد الجيش الاستعماري، يعرفها الخاص والعام بناحية القسم السابع.

السي بن يحيى البوزيدي

الشهيد السي بن يحيى البوزيدي

فقيه شاب، درس في جامعة القيروان بفاس، زاول تعليم القرآن والفقه بالكتاتيب11، وهو يعد من الشهداء الأوائل في المنطقة، حيث استشهد في بداية عام 1955، بعدما اختطفه رجال الدرك الاستعماري، ثم قتلوه رميا بالرصاص على مرأى من جميع الناس. قام هذا الشهيد بدور فعال ومتواصل في نشر الوعي الوطني بين رجال الريف، فلم يتوانى في الدعوة إلى ضرورة مقاومة الاستعمار ولم يتردد قط في نشر فضائل الجهاد، ومن أجل هذا اعتقلته السلطة الاستعمارية وقتلته على الفور، دون أي محاكمة.

الصايم الصايم

المجاهد الصنديد، ينتمي إلى أسرة “بوزيدي” كذلك ومن رجالها البارزين. عرف منذ الأول بإقدامه وحيويته في الثّورة، حيث شارك كعنصر أساسي في تنظيم القسم الخامس، الذي كان يشرف عليه “عقب اللّيل”، وقد تمركز في الأشهر الأخيرة التي سبقت استشهاده، في ناحية “عين الحوت”، قريبا من مدينة تلمسان، بصفته قائدا لمجموعة من المجاهدين. شارك بكلّ شهامة في جملة من المعارك ضد عساكر العدو، ومن ذلك المعركة الشرسة التي استشهد فيها عام 1958. حاصره الجيش الاستعماري بأرض زراعية أثناء تحركه برفقة مجموعة من المجاهدين، قصد الانتقال إلى مكان آخر. حاصرهم العدو بجيش جرّار مدعما بعشرات الدبابات. وحين أيقن هذا القائد بخطورة الموقف أمر جنوده أن يتشتّتوا في كلّ مكان، وأن يحاول كل واحد منهم أن يقتحم صفوف العدو، الذي كان متراصا الواحد في كتف الآخر. في محاولة شاقة للخروج من الحصار. كانت محاولة خطيرة استبسل فيها المجاهدون، ولم يتركوا للعدوّ أيّ فرصة للسيطرة على المعركة، مما دفع جيش العدو إلى التراجع إلى الخلف، لتتولّى بعد ذلك قذائف “النابالم” والدبابات حرق المكان، “ميدان المعركة” بما فيها من بشر وحيوان ونبات، فأدّى ذلك إلى استشهاد حوالي سبعين مجاهدا ومدنيا، ثم قبض على قائدهم “الصايم الصايم” وهو شبه ميت. حيث كان مصابا بحروق بالغة، فربطوه على وجه دبابة، وأخذت بعد ذلك تطوف به في كل مكان، وهم يعرضونه أمام الأهالي المدنيين، وقد انتهى بهم هذا العمل البربري إلى الإجهاز عليه والتنكيل بجثّته. بهذه الصورة إذن استشهد هذا البطل، رفقة جمع من المجاهدين، بعد أن كبّدوا الاستعمار العشرات من القتلى والجرحى.

حمداوي المامون

صديق حميم لـ “عقب اللّيل”، كان كلّ منهما لا يكاد يبتعد عن الآخر، في الفترة التي سبقت اندلاع الثّورة التحريرية، فكان لكل منهما -والحال كذلك- مواقف متشابهة سواء في الرجولة أو الكرم أو فيما يخص معاداة الاستعمار.

كان “المامون” مستقرا بأسرته الكبيرة، المتكونة من بضعة أزواج، وعدد من الأبناء، يزيد عددهم عن الإثنى عشر. كان مستقرا بأرض تسمى “مناخر” بجبال “موطاس”، تحيط بداره الغابة والمرتفعات من كل جهة. ظل يعيش في عزلة تامة على تربية المواشي وتربية النحل. وهو فضلا عن كونه كان رجلا صاحب شخصية فذّة متميزة، فإنّه كان قويّ الجسم، جميل المنظر. تزيّن وجهه لحية مهذّبة شقراء. لعل كل من يراه يخطر بباله وكأنه أمام رجل من العرب القدماء الأشداء، كأولئك الذين جاء ذكرهم أو وصفهم في الشعر العربي القديم.12 ورغم أن هذا الرجل، والذي كانت تربطه علاقة خاصة بـ “عقب اللّيل”، كما قلت سابقا، قد أتته المنية بعد اندلاع الثّورة ببضعة أشهر، فإنّ داره التي كانت قبلة للكرم والضيافة، سرعان ما تحولت بعد ذلك، إلى مقرّ أساسي واستراتيجي للثورة، خاصة وقد جعل منها عقب اللّيل مركزا رئيسا ضمن تنظيمات “القسم الخامس”، فأضحى بحقّ هذا المكان تجمعا للقيادات الثّوريّة ومقرا لها، ويأمّه المجاهدون من كل جهة.

لقد استشهد أبناؤه في معظمهم، وتدمرت داره وخرّبت أرضه وذهبت ممتلكاته جميعا، وهو الرجل الّذي كان يعتبر حينئذ من الميسورين في المنطقة. كل ذلك في سبيل تدعيم الثّورة والتضحية بالغالي والنفيس، بل بالأسرة والأولاد من أجل تحرير الشعب الجزائري.

تلكم هي روابط التضحية والإيثار التي جمعت بين هؤلاء الرجال وتلكم هي صورتها في الإخلاص والتفاني من أجل القضية الوطنية.

1وصلت الأغلبية منهم إلى دوار “الحسينات”وهي أرض في مشارف صبرة من الجهة القبلية. فاستقبلهم الأهالي “الحسينات” بكل حماسة، ثم وزعوهم على مختلف العائلات. وهذا مظهر من أعظم مظاهر التكافل الذي تميز به المجتمع الجزائري أثناء الثّورة التحريرية.

2هؤلاء الرجال ينتمون إلى أسر مختلفة تعود في نسبها جميعا إلى “سيدي بوزيد”، والأسر من أمثال؛بن مالك، بن غليمة، الصايم ، بن عمار، فضلا عن أسرة بوزيدي . وغني عن البيان أن أذكر هنا بأن عدد الشهداء من أسرة بوزيدي بلغ 67 شهيدا ، وهم مجمل شبانها ورجالها آنذاك .

3 Socomat: استقطبت آنذاك الكثير من العمال الجزائريين يعملون في حفرالخط المائي الرابط بين سد “بني بحدل” ومدينة وهران.

L’O.S4

Turenne5

L’O.S6

7 سيأتي ذكر تعيين القادة الأوائل والأقسام في موضوع تنظيم القسم الخامس.

8 من المعلوم؛ أن السي أحمد البوزيدي هو الذي أطلق على الشهيد فراج اسم “عبد المؤمن”.

9استشهد هذا البطل في منطقة آفلو، عام 1959.

10 من أمثال الطيب العربي.

11 كان يقوم بهذه المهمة في نواحي مختلفة مثل بوحلو، سيدي مجاهد تغاليمت.

12 تلك هي صورة الرجل المدعو “المامون”، كما ارتسمت في مخيلتي بعدما شاهدته لأوّل مرة، وعمري لم يتعدّ تسع سنوات، حينما كنت مرافقا لوالدي “عقب اللّيل”، في إحدى زياراته له بأرض “موطاس” في الأيام القليلة التي سبقن اندلاع الثّورة التحريرية.